إن حكمة إرسال الإنسان إلى هذه الدنيا والغاية منه هي معرفة خالق الكون والإيمان به والقيام بعبادته، والوظيفة الفطرية للإنسان وفريضة ذمته هي معرفة الله، والإيمان به، والدعاء.
وكما أن الإيمان يقتضي الدعاء كوسيلة قطعية، وكما أن الفطرة الإنسانية تطلبه بشدة؛ فإن الحق تعالى أيضًا يقول فيما معناه: لا أهمية لكم عند الله لولا دعاؤكم ﴿قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ﴾. وحث النبي صلى الله عليه وسلم على أهمية الدعاء في أحاديث كثيرة.
إن الدعاء في قلب حياتنا اليومية. وهناك نقطة واحدة مهمة جدًا للدعاء. اليوم نتطرق اليها بإذن الله تعالى.
ألا هي: أهمية لقمة الحلال في استجابة الدعاء.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "تَلَوْتُ هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا. فقام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال: يا سعد ، أطب مطعمك، تكن مستجاب الدعوة.
وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... " ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك" .
نعم، هذه التنبيهات الواردة في الأحاديث الشريفة هي من المسائل ذات الأولوية التي ينبغي مراعاتها والتفكير فيها في أدعيتنا. ونحن في أمس الحاجة إلى الدعاء.
قال مولانا جلال الدين الرومي في كتابه المثنوي:
لقد انقطع عني الالهام في هذا السحر. ولم أتلقّى أية سنوحاتٍ في أثناء التأليف. فأدركت حينئذٍ أن بعض اللقمات المشبوهة دخلت جسمي. لأن المعرفة والحكمة تولدان من لقمة الحلال. وإن الحب والرحمة هما من نتائج لقمة الحلال. فإذا حصلتْ الغفلةُ من لقمةٍ؛ فاعلم أن تلك اللقمة مشكوك فيها أو حرام.
إن الجسد الذي ينمو من القاذورات ومن الخبائث يكون عليلاً سقيماً مريضاً، ثم يعود هذا الجسد العليل على الروح وعلى النفس وعلى القلب بالفتور وسوء الأخلاق. وقد تنتقل الصفات السيئة والأخلاق الرديئة من المأكول إلى الآكل.
فنحن اليوم، نولّي اهتمامًا كبيرًا بمعرفة محتويات الأطعمة التي نتناولها، وإذا كانت تحتوي مواد مضرة بجسمنا، فسرعان ما نحاول أن نتجنب منها. ويجب علينا أن نتجنب.
ومع ذلك، ينبغي أن ندرك أن الجسد هو موطن أرواحنا؛ والروح هي الأساس، وأننا بحاجة إلى الاهتمام بأرواحنا وآخرتنا أكثر بكثير من اهتمامنا بأمور جسدنا وحياتنا الدنيوية.
واللقمة كما أن لها تأثير في المعنويات فلها تأثير كبير في التربية المعنوية. وقد ذُكِرَ في سيرة الإمام النورسي الذاتية أنه حينما كان صغيرا يحفظ المتون بسرعة فائقة عند الشيخ في المدراس العربية القديمة، وتعجب شيخه من سرعة حفظه مع صغر سنه. فرغب في زيارة أهل سعيد الصغير لعله يطّلع على الأسباب. وعندما وصل إلى قريتهم سأل عن والد سعيد الصغير فقالوا هو في طريق عودته من المراعي عائداً بأغنامه. وحين أقبل لفت انتباهه أن جميع الأغنام لها لجام من جلد يكمّم أفواههم. فسأله شيخ المدرسة عن سبب وضع اللجام. فقال والد سعيد الصغير الملقب بصوفي ميرزا: "إني أرعى بأغنامي خارج القرية وأمرّ في طريقي بالبساتين والأراضي المزروعة للغير فأخاف أن تأكل الأغنام من أراضي الغير فأصيب الرزق الحرام. وأطعم أولادي من هذا الرزق.
وتعجب الشيخ من هذا التصرف. ثم ذهبوا معا نحو البيت ليعرف المزيد عن أسرة سعيد الصغير. وسأل الشيخ أم سعيد عن سرعة حفظه، فقالت: "حين كان سعيد رضيعاً كنت كلما أردت إرضاعه قمت فتوضأت ثم أرضعته. فعلم الشيخ أن الأب لا يرضى أن يطعم ابنه إلا الرزق الحلال، وأن الأم لم ترضعه إلا حليباً طاهراً. يا لها من اهتمام في اللقمة! وفهم أهمية لقمة الحلال في التربية الإيمانية.
نعم أيها المشاهدون، العامل الأهم الذي يحدد الاستقامة هو لقمة الحلال. إن صحة حياتنا المادية والمعنوية تعتمد على ما نأكله. الشرط الأساسي لاستجابة الدعوات التي تٌرفع لإخوتنا المظلومين هو أن يكون طعامنا حلالًا وطيبا.
ولا ننسى! إن دائرة الحلال واسعةٌ ولله الحمد، تكفي للراحة والرغبات، فلا داعي للوقوع في الحرام أصلاً.
واسمحوا لي أن أكمل كلامي بالدعاء التالي الذي قاله نبينا صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك. آمين.